أعلان الهيدر

الخميس، 30 يوليو 2015

الرئيسية من انت ؟ بقلم مصطفى محمود

من انت ؟ بقلم مصطفى محمود


من أنت ؟ .. حينما تتردد لحظة بين الخير و الشر .. من تكون .. !؟
أتكون الإنسان الخير أم الشرير أم ما بينهما .. !؟
أم تكون مجرد احتمال للفعل الذي لم يحدث بعد .. !؟

إن النفس لا تظهر منزلتها و لا تبدو حقيقتها إلا لحظة أن تستقر على إختيار ، و تمضي فيه بإقتناع و عمد و إصرار ، و  تتمادى فيه و تخلد إليه و تستريح و تجد ذاتها .
و لهذا لا تؤخذ على الإنسان أفعال الطفولة ، و لا ما يفعله الإنسان عن مرض أو عن جنون أو عن إكراه ...
و إنما تبدأ النفس تكون محل محاسبة منذ رشدها ، لأن بلوغها الرشد يبدأ معه ظهور المرتكزات و المحاور التي ستنمو عليها الشخصية الثابتة .
و اختيارات الإنسان في خواتيم حياته هي أكثر ما يدل عليه ، لأنه مع بلوغ الإنسان مرحلة الخواتيم يكون قد تم ترشح و تبلور جميع عناصر شخصيته ، و تكون قد انتهت ذبذبتها إلى استقرار ، و تكون بوصلة الإرادة قد أشارت إلى الطابع السائد لهذه الشخصية .
و لهذا يقول أجدادنا .. العبرة بالخواتيم .. و ما يموت عليه العبد من أحوال ، و أعمال و ما يشغله في أيامه الأخيرة هو ما سوف يبعث عليه ..  تماماً كما ينام النائم فيحلم بما استقر في باله من شواغل لحظة أن رقد لينام .
و لهذا أيضا لا تؤخذ النفس بما فعلته و ندمت عليه و رجعت عنه ، و لا تؤخذ بما تورطت فيه ثم أنكرته و استنكرته ، فإن الرجوع عن الفعل ينفي عن الفعل أصالته و جوهريته و يدرجه مع العوارض العارضة التي لا ثبات لها .
و قد أعطى الله الإنسان مساحة كبيرة هائلة من المنازل و المراتب .. يختار منها علواً و سفلاً ما يشاء .. أعطاه معراجاً عجيباً يتحرك فيه صاعداً هابطاً بلا حدود .. ففي الطرف الصاعد من هذا المعراج تلطف و ترق الطبائع ، و تصفو المشارب و الأخلاق حتى تضاهي الأخلاق الإلهية في طرفها الأعلى ( و ذلك هو الجانب الروحي من تكوينه ) و في الطرف الهابط تكثف و تغلظ الرغبات و الشهوات ، و تتدنى الغرائز حتى تضاهي الحيوان في بهيميته ، ثم الجماد في جموده و آليته و قصوره الذاتي .. ثم الشيطان في ظلمته و سلبيته ( و ذلك هو الجانب الجسدي الطيني من التكوين الإنساني) ، و بين معراج الروح صعوداً و منازل الجسد و الطين هبوطاً ، تتذبذب النفس منذ ولادتها ، فتتسامى من هنا و تتردى هناك بين أفعال السمو و أفعال الانحطاط ، ثم تستقر على شاكلتها و حقيقتها .
(( قل كل يعمل على شاكلته )) (84 – الإسراء)
و متى يبلغ الإنسان هذه المشاكلة و المضاهاة بين حقيقته و فعله فإنه يستقر و يتمادى ، و يمضي في اقتناع و إصرار على خيره أو شره حتى يبلغ نهاية أجله .
و معنى هذا أن النفس الإنسانية أو (( الأنا )) .. هي شيء غير الجسد .. و هي ليست شيئا معلوما بل هي سر و حقيقة مكنونة لا يجلوها إلا الابتلاء ، و الإختبار بالمغريات .
و ما الجسد و الروح إلا الكون الفسيح الذي تتحرك فيه تلك النفس علواً و هبوطاً بحثاً عن المنزلة التي تشاكلها و تضاهيها و البرج الذي يناسب سكناها فتسكنه .. فمنا من يسكن برج النار ( الشهوات) و هو مازال في الدنيا ، فلا يبرح هذا البرج حتى الممات ، فتلك هي النفس التي تشاكل النار في سرها و هي التي سبق عليها القول و العلم بأنها من أهل النار .
و ذلك علم سابق عن النفوس لا يتاح إلا لله وحده ، لأنه وحده الذي يعلم السر و أخفى ، فهو  بحكم علمه التام المحيط يعلم أن هذه الحقيقة المكنونة في الغيب التي إسمها فلان ، و التي مازالت سراً مستتراً لم يكشفه الإبتلاء و الإختبار بعد ، و التي لم تولد بعد و لم تنزل في الأرحام .. يعلم ربنا تبارك و تعالى بعلمه المحكم المحيط أن تلك النفس لن تقر و لن تستريح و لن تختار إلا كل ما هو ناري شهواني سلبي عدمي .. يعلم عنها ذلك و هي مازالت حقيقة مكنونة لا حيلة لها في العدم .
و هذا العلم الرباني ليس علم إلزام و لا علم قهر ، بل هو علم حصر و إحاطة ، فالله بهذا العلم لا يجبر نفساً على شر ، و لا ينهى نفساً عن خير ، فهو يعلم حقائق هذه الأنفس على ماهي عليه دون تدخل .
فإذا جاء ميقات الخلق ( و جميع هذه الأنفس تطلب من الله أن يخلقها و يرحمها بإيجادها و هي مازالت حقائق سالبة في العدم ) أعطى الله تلك النفس اليد و القدم و اللسان لتضر و تنفع ، و أعطاها ذلك الكون الفسيح الذي إسمه الروح و الجسد لتمرح فيه صاعدة هابطة تختار من منازله ما يشاكلها لتسكن فيه .. فإذا سكنت و استقرت ، و تسجلت أعمالها قبضها الله إليه يوم البعث و الحساب المعلوم .. حيث تقرأ كل نفس كتابها ، و تعلم منزلتها فلا يعود لأحد العذر في أن يحتج بعد ذلك حينما يضعه الله في مستقر الجنة أو مستقر النار الأبدية .
و قد أعذر الله و أنذر الجميع من قبل ذلك بالرسل و الكتب و الآيات ، و أقام عليهم الحجة بما وهب لهم من عقل و ضمير و بصيرة و حواس تميز الضار من النافع و الخبيث من الطيب .
و لهذا حينما تطالب النفوس المجرمة في النار أن تعطى فرصة أخرى، و أن ترد إلى الدنيا لتعمل الصالحات ، و حينما يدعي البعض أن تعذيب تلك النفوس أبدياً على ذنوب مؤقتة ارتكبتها في الزمن المحدود هو أمر ظالم .
حينئذ يجيب ربنا متحدثا عن هؤلاء المجرمين قائلاً :
(( و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون )) (28 – الأنعام)
و في هذا الرد البليغ إشارة إلى أن إجرام تلك الأنفس لم يكن ذنباً موقوتاً في الزمن .. بل لأنهم ليعاودون هذا الجرم في كل زمن و مهما عاود الله خلقهم .. لأن ذلك الإجرام حقيقة مكنونة ، و ليس عرضاً محدوداً بالزمان و المكان .. و لهذا كان عقابه الأبد ، و ليس العذاب الموقوت .
و نقول أيضاً : إن هناك عدالة عميقة كامنة في هذا المصير .. ناراً أبدية أم جنة .. إن كل نفس بينها و بين ذلك المصير النهائي مشاكلة تامة ، و مضاهاة و ائتلاف في الحقائق .. فالحقائق النارية تسكن النار و الحقائق النورانية تسكن الجنة .. فلا قسوة هناك و لا وحشية ، و إنما وضع لكل شيئ في مكانه .
و السر الآخر الذي ينكشف لنا أن البيئة لا يمكن أن تصنع من إنسان صالح ( نفسه صالحة بالحقيقة ) إنساناً مجرماً و لا العكس ، و أن الكلام على أن مظالم المجتمع جعلت فلاناً لصاً ، هذا الكلام لا يصدق دينياً و لا واقعياً ، فالمجتمع يضع للجريمة إطارها فقط و لكن لا ينشئ جريمة في إنسان غير مجرم .. بمعنى أن لص هذا الزمان تعطيه إمكانيات العصر العلمية وسائل إلكترونية و أشعة ليزر ليفتح بها الخزائن، بينما نفس اللص منذ عشرين سنة لم يكن يجد إلا طفاشة.. كما أن قاتل اليوم يمكن أن يستخدم بندقية مزودة بتلسكوب ( كما فعل قاتل كنيدي) بينما هو في أيام قريش لا يجد إلا سيفاً ، ثم قبل ذلك بعدة قرون لا يجد إلا عصاً ، ثم قبل ذلك على أيام قابيل و هابيل لا يجد إلا الحجارة .
إن المجتمع و العصر و الظروف تصنع للجريمة شكلها ، و لكنها لا تنشئ مجرماً من عدم ، و لا تصنع إنساناً صالحاً من نفس لا صلاح فيها .
و بالمثل لا يستطيع الأبوان بحسن تربيتهما أن يقلبا الحقائق فيخلقا من ابنهما المجرم ابناً صالحاً و لا العكس .
و نجد في سورة الكهف حكاية عن غلام مجرم كافر ، أبواه مؤمنان :
(( و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً و كفراً )) (80 – الكهف)
و أكثر الأنبياء كانوا من آباء كفرة ، و استجابت أكثر الأقوام لهؤلاء الأنبياء و لم يستجب الآباء
من الذي يستطيع أن يقلب حقائق الأنفس و يغيرها ؟ لا أحد سوى الله وحده
و الله لا يفعل ذلك إلا إذا طلبت النفس ذاتها أن تتغير و ابتهلت من أجل ذلك ، لأنه واثقنا جميعاً على الحرية التامة و على أنه لا إكراه في الدين .. و أن من شاء أن يكفر فليكفر ، و من شاء أن يؤمن فليؤمن .. و أنه لن يقهر نفساً على غير هواها .. و أنه لن يغير من نفس إلا إذا بادرت بالتغير و طلبت التغير .
(( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) (11 – الرعد)
و تلك هي التزكية
(( و لولا فضل الله عليكم و رحمته ما زكا منكم من أحد أبداً و لكن الله يزكي من يشاء)) (21 – النور)
و على الإنسان أن يبدأ بتزكية نفسه و تطهيرها 
(( قد أفلح من زكاها، و قد خاب من دساها)) (9، 10 – الشمس)
(( من تزكى فإنما يتزكى لنفسه)) (18 – فاطر)
و لا سبيل إلى تطهير النفس و تزكيتها إلا بإتقان العبادة و التزام الطاعات ، و إطالة السجود و فعل الصالحات ، و بحكم رتبة العبودية يصبح الإنسان مستحقاً للمدد من ربه ، فيمده الله بنوره و يهيئ له أسباب الخروج من ظلمته ، و ذلك هو سلوك الطريق عند الصالحين من عباد الله ، بالتخلية ( تخلية النفس من الصفات المذمومة ) ، ثم التحلية ( تحلية القلب بالذكر و الفضائل ) و التعلق و التخلق و التحقق .
و التعلق عندهم هو التعلق بالله و ترك التعلق بما سواه ، و التخلق هو محاولة التحلي بأسمائه الحسنى، الرحيم و الكريم و الودود و الرءوف و الحليم و الصبور و الشكور .. قولاً و فعلاً
و التحقق هو أن تصل إلى أقصى درجات الصفاء و اللطف و المشاكلة ، فتصبح نورانياً في طباعك أو تكاد  ، و لا سبيل إلى صعود هذا المعراج إلا بالعبادة و الطاعة و العمل الصالح ، و التزام المنهج القرآني و السلوك على قدم محمد العبد الكامل عليه صلوات الله و سلامه .
و الذي يعلق على هذا الكلام فيقول :
قولك عن النفس أنها (( السر )) هو كلام أغمضت فيه ، و ألغزت و حجبت و ما كشفت
أقول له إن نفساً فيها القابلية للحركة على جميع تلك المعارج صعوداً و هبوطاً ، و فيها القابلية أن تكون ربانية أو شيطانية أو حيوانية أو جمادية .
نفس بهذه الإمكانيات هي (( السر الأعظم )) ذاته
و من إدعى أنه أدرك السر الأعظم !!؟
إن هي إلا أصابع تشير
و المشار إليه لا يعلمه إلا الله
و نحن جميعاً لا نعلم
بقلم : دكتور مصطفى محمود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.